الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن الاطلاع على الحضارات المختلفة من الأمور التي تزيد في المخزون المعرفي لدى الباحث الجاد، لأن البحث العلمي هو الركن الأساسي في قيام الحضارات.
ولعل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت من أوائل الذين مجدوا العقل ونادى بارتياد الاتجاه العقلي حتى سمّي "أبو الفلسفة الحديثة".
وقد نادت الفلسفة الديكارتية بالحق الذي برهنت عليه في وضوح الذهن وبداهيته ومجّدت العقل، وقال ديكارت في المقال عن المنهج: "العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس إذ يعتقد كل فرد أنه أوتي منه الكفاية حتى الذين لا يسهل عليهم أن يقتنعوا بحظهم من شيء غيره ليس من عادتهم الرغبة في الزيادة على ما لديهم منه، وليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، بل الراجح أن يشهد هذا بأن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل، وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين كل الناس بالفطرة، وكذلك يشهد اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر"([1]) .
منهج الشك عند ديكارت:
يرى ديكارت أن البحث في المنهج هو أهم المشكلات وأولاها بالعناية في مهمة الفيلسوف.
ولم يرض ديكارت عن منهج الفلسفة الكلامية الذي كان سائداً في عصره، وتلقَّنَه أيام طَلَبِهِ للعلم في مدرسة لافليش، ولاحظ ديكارت اختلاف وجهات النظر وفوضى الآراء سواء في الفلسفة، أو في العلوم، أو في الدين.
ويرى ديكارت أن المنهج هو عبارة عن قواعد مؤكدة بسيطة إذا راعاها الإنسان مراعاة دقيقة، كان في مأمن أن يحسب صواباً ما هو خطأ، واستطاع -دون أن يستنفذ قواه في جهود ضائعة-أن يصل بذهنه إلى اليقين في جميع ما يستطيع معرفته([4]).
والشك هو خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية عند ديكارت، وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، إذ يقول: "الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها، سواء كانت أحكاماً فرضها الغير، من معلمين، أو مرشدين، أو من وكّل إليهم أمري، أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك"([5]).
ويقول أيضاً: "لقد كنا أطفالاً قبل أن نصبح رجالاً، وحيث أننا قد أصبنا أحياناً، وأخطأنا أحياناً أخرى في أحكامنا على الأشياء المعروضة لحواسنا، عندما كنا لم نصل بعد إلى تكوين عقولنا، فإن هناك ثمة أحكاماً كثيرة، تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك"([6]) .
من خلال هذه النصوص يمكن القول: إن الشك عند ديكارت يختلف عن الشك الذي كان سائداً قبل عصره، فالشك عند ديكارت هو شك مؤقت يقوم على هدم الماضي في سبيل إصلاح ما فسد منه، أو إعادة النظر فيه، في حين أن الشك عند من سبقه هو الشك المطلق كما هو عند"مونتني" وفلاسفة إيطاليا في القرن السادس عشر نتيجة إعادة إحياء تراث اليونان وتغيير خريطة العالم.
فالشك في المرحلة السابقة على فكر ديكارت جمّد العلم، وأضعف من شأنه، في حين أن منهج الشك الديكارتي ردّ إلى العقل احترامه، إذ أن الشك الديكارتي شك إرادي يصطنعه، وهو مؤقت، لأنه يظل مستمراً حتى يتيقن الإنسان من أن أفكاره قد بلغت حداً فائقاً في الدقة واليقين، وأنه لا يلابسها أدنى شك.
فالشك الديكارتي شك بنّاء؛ لأنه وليد تجربة شخصية عقليه، حيث إن ديكارت وجد أمامه تراث فلسفي وعلمي وديني كثرت حوله الأقاويل، وتعددت بصدده المذاهب، فلم يجد في هذا التراث الذي عايشه شيئاً يطمئن إليه بصفة مطلقة، أو يقنعه تماماً، فاصطنع الشك منهجاً لبلوغ اليقين في جميع ما يحيط به من معارف ونظريات([7]).
ومنهج الشك الديكارتي قد يشبه منهج الشك عند الإمام الغزالي كما يفهم من قوله في (المنقذ من الضلال): "لقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري غزيرة وفطرة من الله"([8]).
وهذا ما ذهبت إليه الدكتورة راوية عبد المنعم في كتابها(ديكارت والفلسفة العقلية) إلا أنها فرقت بين المنهجين بقولها: "وبالرغم من هذا التشابه الظاهري في استخدام منهج الشك عند كل من الفيلسوفين، إلا أن طريق الشك الذي انتهجه الأول يختلف عنه عند الثاني، الذي نتج من أزمة نفسية انشقت عنها حالة إشراق صوفي، بينما كانت الحقيقة المعقولة هي نتيجة الشك الديكارتي الذي لم يكن يرمي إلى إثبات روحية النفس، ويرتقي منها إلى معرفة الله"…، وتضيف د.راوية قائلة: "كان الفلاسفة يبدأون من العلم الطبيعي ليصلوا منه إلى ما بعد الطبيعة "الميتافيزيقيا"، وبمجيء ديكارت الذي بدأ من فكرة "الله" لم تعد النظرة إلى العالم تبدأ من العالم المحسوس إلى العالم المعقول، بل تبدأ من العالم المعقول عنى طريق الفكر الذي هو أساس كل معرفة.
فقد حاول الوصول إلى اليقين عن طريق استخدام منهج الشك، ذلك المنهج المؤقت الذي يهدف منه إلى بلوغ الحقيقة في جميع المعارف والعلوم الإنسانية، التي أصبحت في نظر ديكارت موضع شك ومحل شبهه"([9]).
وهذا المنهج الذي سلكه ديكارت كان من أُولى ثماره إثبات الذات والتي نتج عنها النظرية الديكارتية المشهورة "أنا أفكر فأنا موجود"، وبعد ذلك توصل إلى اليقين بوجود الله.
وفي ضوء ما تقدم فيمكن تلخيص منهج الشك عند ديكارت بالنقاط التالية:
1.إن المنهج الديكارتي نشأ نتيجة المناخ العلمي والفكري الذي عاش فيه وكان محاطاً بالاتجاهات العلمية والدينية.
2.إن تفكير ديكارت في كل ما كان يدور حوله والموروثات العلمية والدينية التي عجز رجال الكنيسة عن تفسير مقنع للمسلّمات التي يؤمنون بها واكتشافه خطأ أقوالهم.
3.الشك عند ديكارت هو وسيلة للوصول إلى اليقين وليس شكاً مطلقاً.
4.الشك الديكارتي منهجاً جديداً ومبتكراً، ولم يسبق إليه في حين أن الشك المطلق كان مذهباً سائداً قبله. ويمكننا القول: إن ديكارت طور مفهوم منهج الشك.
5.حاول ديكارت هدم العالم الحسي بالشك وإعادة النظر إليه من جديد.
والذي فهمته من مطالعتي لأفكار ديكارت: أنه لا يوجد عنده حقائق يقينية مسلّمة، قبل البحث والتدقيق، والتمحيص فيها، لكنه في الوقت نفسه لا ينكر وجود هذه الحقائق مطلقاً.
فهو يشك في كل شيء، وبعد البحث يوصله هذا الشك إلى النفي أو إلى الإثبات، فالشك هو الأصل عنده.
ولعل هذا المنهج يصلح في البحث في الأمور العلمية البحتة، ويمكن الاستفادة من هذا المنهج في بحوثنا العلمية، لكننا لا نستطيع الاعتماد عليه وحده في البحوث المتعلقة بالشريعة، والأحكام، والعقائد، لأن الإيمان بالغيب، هو ركن أساسي من أركان الإيمان، بل إن أركان الإيمان كلها قائمة على الإيمان بالغيب، ومستندها: الأدلة النقلية، لا العقلية.
وإذا كان العلم لا يتقدم إلا باتباع مناهج البحث العلمي، وكلما كانت هذه المناهج أكثر دقة وانضباطاً، كانت النتائج المترتبة عليها كذلك.
وإذا علمنا أن العلم شرط رئيس في قيام الحضارات، فإن مناهج البحث العلمي ذات صلة وثيقة بقيام الحضارات.
وإذا كانت حضارة أوروبا قامت حين تخلوا عن التفكير الأسطوري، واتبعوا منهجاً عقلياً منضبطاً في العلم والتفكير، بظهور بعض العلماء والمفكرين، أمثال: ديكارت وبيكون وغيرهما، فأنتجوا علماً وأشادوا حضارة، فإن الأمة الإسلامية عندما سلكت المنهج الرباني في السلوك والتفكير، فإنهم لم ينتجوا حضارة فقط، بل كانوا أسياد الحضارات كلها، وأنتجوا علماء عاملين، وبرزوا في جميع العلوم الدينية والدنيوية، وسخروا هذه العلوم في خدمة الدين، والإنسان.
وختاماً نسأل الله أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يعيد للإسلام والمسلمين عزهم، ومجدهم، إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.